عنوان المقال هو عنوان لكتاب قيم من تأليف الدكتور صلاح الخالدي –جزاه الله خيرا- ، ذلك الدكتور الذي عنى بوضع ترجمة وافية لسيد قطب صاحب أكثر شخصية دار عليها الجدل والخلاف في القرن الماضي ، ولذلك ألفت كتب كثيرة تتناول دراسة هذا السيد، وكان هذا الكتاب أضبطها في إعطاء الصورة الحية لشخصية سيد قطب حتى إنه ليخيل إليك رؤية سيد كما لو كان أمامك بهيبة عقله وفكره وبأسلوب أدبي راقي ، ولذلك أثنى محمد قطب على دراسات الدكتور لشخصية سيد بقوله عنها:"من أنضج الدراسات وأوفاها وأشملها، وصاحبها كاتب تراجم متميز..إلخ" ، وأنا هنا لا أريد أن أذكر ترجمة لسيد، إنما أريد أن أذكر خواطرا طرأت علي عن هذا الرجل بعد قراءتي لكتاب الدكتور ، وكل ذلك بهدف شحذ همة القراء للإطلاع على ترجمة هذا القطب الشامخ وللاقتداء به ، وحاشانا أن نوفيه حقه وقد بذل رقبته في سبيل الله، ولا نزكي على الله أحدا..!
إن الخاطرة الجميلة تجاه الأشخاص الطيبين ليست ذات صعوبة، فكل ما عليك هو تلمس جوانب العظمة في شخصياتهم وتناولها، لكن الأمر يختلف تماما مع سيد، فجوانب حياته هي العظمة ذاتها، إيمان أم شجاعة أم عزة أم كرامة أم أنفة أم طهر أم عفاف أم جهاد أم أم أم ، معان جميلة متناثرة هي ذلك الرجل..
إن سيد الطفل لم يكن طفلا كغيره، إن العظماء قد ولدوا عظماء وماتوا عظماء ، سيد الطفل كان بالعاشرة من عمره محافظا على الصلوات تماما كالرجال ويجلس معهم إلى الساعة العاشرة بالمسجد بينما الأطفال يلهون ويلعبون ، كان نابغا من طفولته لما سأل الشيخ عن سبب حذف حرف العلة في قوله تعالى:"ذلك ما كنا نبغ" بلا مبرر ظاهر، كان شجاعا لما دافع عن الفتيات في المرحلة الابتدائية ضد الفتيان الذين يعاكسونهم في المدرسة، هذا هو الطفل الرجل..
إن سيد شخصية تحيط بها مفارقات لا تجتمع ، كان ضعيف البنية قوي القلب ولذلك تعجب الشيخ علي الطنطاوي من شكله لما التقاه ، إذ لم يتصور أن المقالات العنيفة تصدر من شخص ضعيف البنية تبدوا عليه مظاهر المسالمة والموادعة ، ومن المفارقات أن سيد كان حاد اللسان مرهف الإحساس، وأنا أشببه في ذلك بابن حزم الظاهري، ونحن إذ نذكر إحساس سيد المرهف لا بد لنا من التطرق للمرأة في حياة سيد؟ إن الحس المرهف لسيد جعله يعاني، إن سيد من الذين أحبوا مرارا ولم يصلوا، إن حب سيد هو الحب الراقي ، حب العفاف والطهر ، فقد أحب في البداية فتاة وسافر للدراسة ورجع فإذا هي متزوجة ، فغرغرت عيناه ثم اضطر للانسحاب ، ثم أحب فتاة غيرها وتبين له أنها تحب غيره وظل خاطبا لها سنوات عديدة ظل يتعذب بها حتى صارت نتاجا أدبيا رفيعا من أشهره قصيدة الكأس المسموم ورواية الأشواك ، ثم اضطر بعد ذلك لفسخ الخطبة ، وظل يعاني سنينا وقد صرفه ذلك عن الحب سنوات عديدة ، ثم توجه بعد ذلك من العمل الأدبي البحت إلى الأدبيات الإسلامية ثم انضم لجماعة الإخوان ، واستغرق العمل الحركي كل وقته ، وقبل أن يُعتقل أحب فتاة ملتزمة وأقدم على خطبتها ، لكنه قبل ذلك اعتقل وألقي في السجن مظلوما ليقضي به سنوات من عمره ، ثم خرج بعفو صحي ، وكان عمره قارب التاسعة والخمسين وقد فكر بالزواج ووجد بغيته ، وأوشك على خطبتها لكن حبل المشنقة سبقه إلى ذلك..!
إن سيد مر بمراحل عديدة في حياته ، طفولة ثم أدب بحت في مدرسة العقاد ثم ضياع فكري ، ثم توجه للأدب الإسلامي إلى أن صار رائد الفكر الحركي الإسلامي ، وهذه المرحلة هي التي يعرف الناس اليوم بها سيد ، وهذه المراحل العديدة في حياة سيد تدل على شجاعته في إتباع الحق ، وهو خير مثال للذين يموتون وهم على عمى قومهم مقتدون..!
عندما انشق المنافق جمال عبدالناصر عن الإخوان وأسس هيئة التحرير ، حاول أن يحتوي سيد قطب قبل انضمامه للإخوان فأقامت له الهيئة احتفالا كبيرا ، وعندما قام سيد متحدثا قال أنه متهيء للسجن ولما هو أكثر من السجن ، فقام جمال وعاهده على الدفاع عنه ، وهو ذاته المنافق الذي أمر بإعدامه فيما بعد ، إن جمال كان يعلم المكسب العظيم من انضمام سيد للهيئة فعرَض على سيد استلام وزارة المعارف فرفض سيد هذا العرض ، وفي ذلك درس للدعاة الذين يتساقطون ويخضعون للحكام في أقل عرض دنيوي ، وكم رأينا قيادات للجماعات الإسلامية عرضت عليهم مناصب وزارية فخضعوا للطاغوت من أجلها ، خسروا دينهم من أجل حطام الدنيا الزائل..! أما سيد فقد أعلن انشقاقه عن هيئة التحرير.. باع الدنيا من أجل الآخرة .. فرحمه الله رحمة واسعة..
إن العجيب أن سيد توجه للفكر الإسلامي من خلال التدبر المباشر لآيات القرآن ، كان سيد قبل أن يتوجه للفكر الإسلامي أديبا أريبا ، ثم اعتنى بتدبر القرآن من الناحية الأدبية من خلال رصيده الأدبي السابق ، ثم توجه إلى الفكر الإسلامي ليس من خلال عاطفة حماسية أو نصيحة شخصية ، بل من خلال روح عصامية وصلت للحقائق العليا بتدبر الخطاب الإلهي الموجه إليها ، كان يحس أن آيات القرآن قد وجهت إليه فعلا ولذلك تأثر فيها ونقلته من مرحلة الضياع الفكري إلى مرحلة الريادة في الفكر الإسلامي الحركي بعد انضمامه لجماعة الإخوان المسلمين .. فهو قائد تنظيم بالرغم من دخوله المتأخر للإخوان ، (وهذا درس لبعض الجماعات الإسلامية التي تضع الأقدمية أساس القيادة).. لا بد أن يعلموا أن الدعوة لمن صدق لا من سبق ، والخيار في الجاهلية خيار في الإسلام..!
وهكذا انضم سيد إلى صفوف الإخوان ، لكنه انضمام عن قناعة ، لم ينضم للإخوان في مرحلة الرخاء ، بل انضم لهم في وقت المحنة ، ولذلك بعد انضمامه بفترة وجيزة ألقي بالسجن مرات عديدة ، وظل قابعا بالسجن سنوات عديدة من عمره ، ذاق فيها صنوفا من التعذيب إضافة إلى أمراضه في الكلى والمعدة والرئة ، وقد أصيب من جراء التعذيب بنزيف رئوي شديد وذبحة صدرية..! لم ينحني ولم ينثني..!
إذا كانت النفوس كبارا ** تعبت في مرادها الأجسام
وقد جعل سيد السجن نتاجا إسلاميا لمؤلفاته ، لم يكن سجينا ذليلا كغيره ، فعندما كان يُقدم أهله له الدجاج في السجن كان لا يذوقه ويقدمه لإخوانه المساجين ، اسمعوا يا مسلمون هذه هي المكارم..!
وهكذا علق حبل المشنقة على رقبة سيد ، وفارقت روحه الطاهرة هذه الأرض ، ليلقى ربه -إن شاء الله- ، وظلت كلماته داوية وصار الجيل بعد الجيل يرويها ، وهذا ما قاله سيد:"إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة ، حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء ، انتفضت حية ، وعاشت بين الأحياء" وهكذا طويت صفحته .. فرحمه الله رحمة واسعة. انتهى
مع كامل تحياتي .. المحامي
هناك 13 تعليقًا:
جميل .. والله
لقد كان سيدا اديبا اريبا
وكتابه في ظلال القرآن من اروع الكتب وانفسها
وقال الدكتور طارق السويدان قرأت 30 كتاب في التفسير ما ودت كتاب مثل في ظلال القرآن
مقولة د.طارق السويدان عن الظلال في محلها ، وقد أكد الشيخ علي الطنطاوي أن سيد أعطي مفتاح في الظلال لم يعطه أحد قبله..
رحمه الله رحمة واسعة ..
حقا أسلوبه فريد فقد قرأت له "التصوير الفني في القرآن" .. كان كتابا رائعا .. بين في مقدمته كيف كان خياله الساذج في طفولته يصور الآيات الكريمة ويتخيلها وإن لم يفقه منها شيئا.. حتى قرأ وتعلم ثم ألف في التفسير ما ألف ..
لم أقرأ له ترجمة من قبل .. ولكن خواطرك هذه أعطتني تصورا كاملا عن هذه الشخصية العظيمة ..
فشكرا على ما قدمت ..
وجميلة هي تلك الدروس التي بين السطور
مقالك الذي هو بعنوان(( سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد )) أكثر من روعة لعدة نقاط :
1- اختيار الموضوع : فالشخصية لا تنسى على مر الأزمان لصلابتها في مواجهة الحق ونحتاج التذكرة لأخذ العبرة والعظة .
2- التحليل بين أسطر الأحداث دلت على دقة الكاتب في التحليل وجمال العبارات .
تحياتي..الازاهير الندية
الاخت book mark >>
أطلاعج على كتاب التصوير الفني بدل على حرصج الكبير على الأدب الإسلامي ،، وأشكرج جدا على مشاركتج في مدونتي المتواضعة ، وللعلم أني سعيد جدا بمشاركتج
تحياتي
الأستاذة الكبيرة الأزاهير الندية .. يا ألف أهلا وسهلا بتواجدج في المدونة ، وهذا تشريف لي وللمدونة ، وأشكرج جدا على ما تفضلتي بكتابته..
ولكي كامل تحياتي
سلام عليكم ...
أخي المحامي ... أشكرك ع الموضوع الجميل ...
و واضح اعجابك بالسيد قطب ... ، وكلنا معجبين فيه مع انه انضم للأخوان متأخرا الإ أنه كان ذو ميول إسلاميه من صغره
وقد ترك عمله مع وزارة المعارف وذلك بسبب خلافاته معهم لسبب ميولهم اليساريه
...
اخوك الغيداق
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
يا ألف أهلا وسهلا بأخوي (الغيداق) وأنا جدا سعيد بمرورك على مدونتي ، وإن شاء الله نشوف بصمتك فيها دائما
وأشكرك على الإضافة المفيدة التي تفضلت بذكرها
لك كل تحياتي :)
هداك الله يا اخي.. سيد قطب لا يعرف شي عن الاسلام
انما هوا مفكر وليس له الا الضلال. فقد ضل في التفسير وقد ضاع بحر البدع
ولا يخفى عليك . انه تنقص الصحابة . ومنهم. عثمان رضي الله عنه
ايرضيك هذا
فاعلم . ان من تنقص الصحابة ولو صحابي واحد . فهو زنديق .
فا هذا قطب ماذا قدم للاسلام الا تنقيصه للصحابة وتعطيلة لصفات الله تعالى وقولة بالحلول ووحدة الوجود. وايضاً لايخفى عليك . انه يرى التصوير الفني بالقران .
الله المستعان اللهم ثبتنا على السنة واعنا على دض البدعه واهلها
الله يهدينا وإياك للصواب..
وأما تنقص الصحابة .. فهو فعلا ذكر بعض ذلك لكن في كتبه القديمة التي كتبها في مراحل الضياع .. وقد أكد أخوه محمد قطب تراجعه عن بعض كتبه التي فيها انحرافات .. فهل نحاسب من تاب عن ذنبه قبل ذلك؟!! وقد أثنى في كتبه اللاحقة على الصحابة الذين ذمهم في كتبه السابقة وتراجع عما قاله
وأما وحدة الوجود .. فقد ذكر نص يحتمل ذلك .. ثم ذكر في تفسيره صراحة أن وحدة الوجود عقيدة فاسدة .. ماذا تريد أكثر من ذلك؟
وأما ادعائك أن سيد قطب لم يقدم للإسلام شيء أو أنه لا يعرف شيء عن الإسلام .. فإنني أقول لك: أعانك الله على هذا الكلام يوم القيامة .. فإنك تذم من قدم نفسه لرفعة كلمة"لا إله إلا الله"
نحتسبه والله حسيبه
جزاك الله خيراً وأنفع بك الناس والله هكذا نرى ونعيش ونلمس حلاوة كلام الله فما زلنا نتحدث عن بطل لم ينحني ولم ينكسر ولم يذل بينما راح الطاغية فالحق دائماً ظاهراً والباطل زاهقاً
اسأل الله تعالى أن يرحم شهيد الإسلام وأن ينتقم من كل من اراده بسوء
إرسال تعليق