السبت، 20 مارس 2010

أمي .. سيدة سيذكرها التاريخ..!



مهلا أيها القارئ الكريم..! فإنني عندما أتحدث عن أمي فلست كأي أحد يتحدث عن أمه .. إنني إذ أتحدث عنها فإنني أتذكر جلالة خديجة وعلم عائشة وحكمة بلقيس وتضحية الخنساء وعفة مريم وإيمان امرأة فرعون .. وقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام:"كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع.." وإن كان لهن خامسة فهي أمي ، ولست أمتدحها من قبيل المجاملة أو من باب حب الابن لأمه .. كلا .. إنني أتحدث عنها بصوت عال لتكون قدوة لنساء المجتمع ، إنها من اللواتي إن رأتها العين فلن يجد اللسان حولا إلا بأن يصدع قائلا :"ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"..


وإنني ها هنا لست بصدد الحديث عن ترجمة لامرأة يتم ذكرها في كتب التراجم بل إنني بصدد الحديث عن ظاهرة تاريخية لو كان ابن كثير حيا فلن يسعه إلا أن يذكرها في تاريخه ، ولو كنت وزير تربية فلن يسعني إلا أن أقر مادة ارفع لها عنوانا هو اسم أمي ، تدرس في كل المدارس لترقى بالطلاب والطالبات إلى أعلى عليين ، قد تظنوني مبالغا أو منحازا أو متعصبا إلا أن ذلك ظن وهو لا يغني عن الحق شيئا ، ثم إنني لم أستطع أن أتنصل تجاه الحقائق وقد أمرني الله بالعدل والإنصاف ، ولذلك اسمعوا مني الحديث بإيجاز عن مظاهر العظمة في هذه الظاهرة التاريخية .. فإن الحديث هنا يكتب بماء الذهب..

أمي التربوية

ها أنا أعود معكم بذاكرتي إلى مرحلة طفولتي .. إلى مرحلة كان يتم فيها إعدادي لخطب جلل لا أعلم شأنه .. ولست أعلم لماذا كنت أنام تارة على قصة صبر خباب وآل ياسر وبلال .. وتارة على ثبات الصديق وقوة عمر و جهاد خالد ، بينما كان غيري ينام على نوادر جحا .. كان ذلك الإعداد ترسيخا لمبادئ الصراع بين الكفر والإيمان .. وقد أكون غير مدرك -آن ذاك- لهذه الحقائق جيدا إلا أنني كنت أفهم حقيقة وجود الصراع ، مع ترسخ فلسفة القيم التي يدرك فيها الصغير القبيح من الحسن بفطرته السليمة ، حتى إنني أخذت دور "رئيس الحسبة" وأنكرت المنكر لما سافرنا إلى أحد الدول العربية التي تزيد فيها مظاهر الفجور والانحلال ، أتحدث عن ذلك وأنا ابن سبع سنوات ، فمن أين أتاني هذا المنصب؟! إنها التربية الجسورة..! إنها التربية التي تمكننا اليوم أن نجهر بما نؤمن به دون الالتفات لأحد .. ولا أحد ..!

كنت في مرحلة التنشئة أريد الخروج والتأخر بالرجوع فكانت توبخني وكنت أستنكر خوفها علي ، فكانت تستدرك على ذلك بأنها ليست خائفة ثم تقول:"لو فتح باب الجهاد فإن أول من سأزج بهم لنصرة دين محمد هم أبنائي" ، هكذا تكون التربية يا سادة ، فتعسا لأمهات ربت أبنائها على الدعة والترف..!

الهيبة والأنفة والعزة والشمم والترقي والتعلي والرفعة والشهامة والكرامة والسخاء والعطاء والبذل والتضحية والشجاعة معان كنا نشربها كما نشرب الماء الزلال .. نتغذى بها على يد أمنا حتى غدونا سادة يعلون ولا يعلى عليهم .. فشكرا لك يا فاضلة..

أخذت أنا محدثكم دروعا كثيرة لا أحسب لها قيمة .. بل إن أكثرها قد استلمته بواسطة معارفي دون الذهاب للتكريم ، ذلك أنني لا أحبذ المظاهر والشكليات .. وشغف التكريم يغرى النفس الوضيعة وحسب .. وأما النفس العالية الشماء فقد خلقت رفيعة فليست بحاجة إلى ما يرفعها .. وعلى كل حال فإن هناك درعا واحدا أراه -على بساطة شكله- شامخا بين الدروع .. إنه الدرع الذي أهدتني إياه أمي منذ ما يقارب عشر سنوات بعد رجوعي من إحدى الدورات العلمية المكثفة ..




الدرع الثمين

.

.

أمي الداعية


حدثتني جدتي من جهة الأب أن أمي في بداية زواجها من أبي كانت تقيم في المنزل حلقات دعوية ، فكانت جدتي تستغرب مع بعض الاستنكار كيفية دخول حلقات الدعوة بعض النساء السافرات الكاشفات -ذلك أن بيئتنا جمعت غيرة العرب بصورتها العنجهية علاوة على أنها بيئة محافظة- ، فكانت جدتي تفصح هذا الاستنكار لأمي ، فترد عليها أمي بثقة ويقين:"تمهلي وسترين..!" فقط ولم تزد على ذلك .. وتمر أيام معدودة في اليدين .. وتخرج السافرات متحجبات يحملن راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله" .. حدث ذلك ووالدتي لم تتعد المرحلة الجامعية..! وتمر الأعوام .. وها هي أمي تقود موكبا من مواكب الدعوة يضم صغيرات وشابات وعجائز .. يجاهدن في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم..! .."ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"

إن الغريب أن والدتي جمعت خصلتي السماحة والهيبة بآن واحد .. أتعجب عندما أرى اللغو يزيد عند بعض الأقارب .. وفجأة تدخل والدتي السمحة المهيبة فينضبط الجو العام .. وكأن على رؤوسهم الطير..!

تخرجت والدتي من كلية الحقوق .. فأين تعمل؟ إنها تبحث عن أفضل وسيلة دعوية لا أكثر عائد مادي .. فوقع الاختيار على مهنة تدريس التربية الإسلامية .. وها هي والدتي تعمل بمهنة التدريس وترفض أن تصبح وكيلة أو ناظرة لسبب واحد هو الدعوة .. وقد باشرت لفترة وجيزة إكمال ماجستير القانون فارتأت ترك ذلك لهدف واحد هو الدعوة .. إنها تحسب الأمور بغير ميزان الدنيا..! فما معنى الشهادة أمام توقف العمل الدعوي؟! هكذا حسبت الأمور .. إن الشهادات الدراسية قد يحملها من هب ودب .. على خلاف حمل راية الدعوة .. إن مدرستها لم تعد مدرسة نظامية بل جمعية دعوية .. فلم تر بدا في ترك إكمال الدراسة من أجل هذه الجمعية الدعوية .. فكرت بالتقاعد فرأت ذلك نكوصا عن الدعوة لا عن المهنة .. ذلك أن القضية قضية مبدأ لا مجرد مهنة..! فهي على أتم استعداد أن تكمل التدريس حتى بدون راتب.. وأما عن التصدي للحلقات الدعوية والمؤتمرات النسائية والدروس العلمية فهذا تصنيف طويل لا يسع له المقام .. وأجد قلمي عاجزا عن وصف جهاد في الدعوة يمنعها من النوم إلا سِنة -بالكسر- تأخذها..


أمي الدبلوماسية

تميزت والدتي بالحنكة الدبلوماسية التي لو امتلكها رئيس دولة لقاد البشرية جمعاء .. إنها تتصرف مع البشر من خلال خطة مدروسة .. فليس للتصرفات العابثة عندها مكان .. حدثتني عن إشكالية حصلت لها في المدرسة .. ملخصها أن قسم اللغة العربية في المدرسة قد علق لوحات بها أحاديث ونصائح .. ثم نُزعت اللوحات .. فقامت إحدى عاملات النظافة برمي اللوحات في الخارج .. فقامت والدتي بأمرها أن ترجع اللوحات مع تعليقها عند قسم التربية الإسلامية بدلا من رميها في القمامة .. ولما علمت إحدى مدرسات العربي الشابات بذلك غضبت وظنت أن والدتي أرادت أن تنسب العمل لها .. ووصل العتاب لوالدتي فذهبت واعتذرت عن سوء الفهم أمام مدرسات قسم العربي .. فكان أن وجدت ردودا سيئة من بعض المدرسات .. فذهبت والدتي إلى أفضل محلات الحلويات وجلبت ما لذ وطاب .. ثم أرسلته لقسم اللغة العربية مع اعتذار .. فما الذي حصل لمدرسات العربي؟! هرعن إلى قسم والدتي وطفقن يبكين ويعتذرن عن سوء خلقهن ويقبلن الجبين..!

سأتوقف هنا يا سادة .. فإنني لو تابعت السرد عن والدتي لصنفت مجلدات تعد من أمهات الكتب .. وسأكتب في المستقبل -إن شاء الله- كتابا عن "أمي التي عرفت".. هذه التي جمعت من الخصال الحسنة ما تفرق على غيرها .. ولو وزع إحداها على بشر لعد من العظماء..! إنه الكمال البشري الذي لا يقبل التكرار..!


شكرا لك يا ابنة الأكارم .. يا سليلة بني تميم :)

وتحياتي لوالدتي ولكم :)