الأربعاء، 16 ديسمبر 2009

نحن أحق بالشك من إبراهيم




((دعوة لإعمال العقل))


خلق الله -عز وجل- الإنسان على الفطرة السليمة وشرفه بالعقل الذي هو مناط التكليف ، ومن ثم كلف الله-عز وجل- الإنسان بأن يعمل عقله لكي يصل للحق ، ولما كان العقل البشري بطبيعته مصدر تلقي تتطرقه أفكار تفسد عليه فطرته السليمة كان التشريع الرباني هو المقوم لهذه الفطرة السليمة وعلى أساسه يتضح الحق الذي هو مراد التشريع.

إن قصة إبراهيم -عليه السلام- التي حكاها لنا القرآن عندما كان إبراهيم -عليه السلام- مع إيمانه بالله -عز وجل- حريصا على أن يصل إلى أعلى مراتب الحق وذلك بقوله تعالى:" وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى.قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي" ، فإبراهيم -عليه السلام- في هذه الآية لم يشك في قدرة الله -عز وجل- لأنه قال "رب أرني كيف.." ولم يقل "أرني هل" والفرق بينهما واضح ، ولكنه أراد أن ينتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين المتمثلة بأعلى مراتب الإيمان وهو بهذه الصورة يضرب مثلا أعلى للإنسان بأن يسعى بإعمال عقله إلى أن يصل إلى أعلى مراتب الحق.

إن البحث عن الحق في فترة النبوة كان متمثلا بسؤال واحد ياتي جوابه من المصطفى-عليه الصلاة والسلام- ، وبعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- صارت خيرية القرون تسفل شيئا فشيئا عما كانت عليه حتى وصلنا لوضعنا الحالي ، وهذا بدوره جعل الوصول إلى الحق يصعب شيئا فشيئا ، فقد قل خيار الناس وكثر فساقهم ، وانتشرت المذاهب والأفكار الفاسدة المنسوبة -زعما- بالدين الإسلامي ، حتى سقطت الدولة الإسلامية وصارت المناهج والأفكار الغربية تُسيَّس في مناهجنا الوطنية عبر وسيلة دس السم بالعسل ، وصارت وسائل الإعلام التغريبية في بيت كل مسلم ، وتم رسميا تنحية الدين الإسلامي عن حاكميته المطلقة ، وجاء زمان الفقهاء الكذبة الذين أخبر عنهم المصطفى -عليه السلام- ، ووصلنا إلى الزمان الذي يصبح فيه الحليم حيرانا ، لا يعلم ما هو الحق ولا أين سبيله!

إن هذا العرض الموجز لمسلسل الانحدار الذي مر بالأمة الإسلامية هو داعي لكل مسلم ان يسعى إلى تقنين الشك بما يتلقاه من أفكار صارت عنده في مرتبة المسلمات القطعية التي لا يعتريها الشك على مذهب إنا وجدنا آبائنا ، وبالرغم من أن أخطر شيء على الإنسان أن يشك بالثقافة التي يتشربها منذ صغره ويهدمها إلا أن وجود العقل يحتم عليه ذلك ، وقد أمر الله مرارا وتكرارا في كتابه الحكيم بالتفكر والنظر ، فالدعوة لإعمال العقل لمن له عقل واجب شرعي لا مناص منه ، وقد أنكر الله على الذين يموتون وهم على عمى قومهم مهتدون ، ولا يبرر للإنسان باطله فساد الزمان فالأقوام التي أهلكها الله-عز وجل- كان فيها الفساد منتشرا ومع ذلك لم يعذروا طالما بلغهم الدين، وإلا فما هو الفرق بينهم وبين البهائم؟!

*إن هناك ملاحظة خطيرة تثبت أن معظم البشر لا يستخدمون عقولهم في الوصول إلى الحقائق ، فلو نظرنا للموحدين في مكة قبيل البعثة لوجدناهم أربعة فقط ، ولو رجعنا لقوم فرعون لوجدنا الذين آمنوا يعدون في الأصابع ، ولو نظرنا للمتشيعين لوجدنا جلهم يثبتون على ما هم عليه وكذا المتسننين ، وكذا النصارى وكذا اليهود وكذا المسلمين اليوم ، إذ هم لولا أنهم وجدوا في أقوامهم لكانوا على عقائد مختلفة بالرغم من كون الحقائق واحدة ، إذا فالقضية ليست أنهم مقتنعون بدينهم بل إنهم ورثوا ذلك دون دراية ، ولذلك تجد الكثير من المسلمين اليوم هم أبعد ما يكونوا عن الإسلام بل وليس لهم من الإسلام إلا اسمه ، وهؤلاء هم الذين نسميهم "المسلمون بالجغرافيا".


*وقفة مع سلمان الفارسي في بحثه عن الحقائق:-
عندما ترك سلمان مسقط رأسه فارس بعد أن كره مجوسية قومه وذهب للشام والتقى بالقساوسة ولم تعجبه ديانتهم قرر الذهاب للمدينة المنورة للالتقاء بالحبيب المصطفى ، وأثناء بحثه عن الحقيقة حملته قبيلة بني كلب التي غدرت به واستعبدته وباعته في المدينة إلى أن وصل للحقيقة التي سكنت لها نفسه ، فقد هاجر وترك قومه ذوي المكانة في فارس واستعبد وبيع مع العبيد ابتغاء الوصول للحق ، فكان في الإسلام رجلا فاضلا ، وكان في بحثه عن الحقيقة مضرب مثال للذين يحترمون عقولهم.


*وقفة مع ديكارت:-
يقول ديكارت في كتابه"تأملات من الفلسفة الأولى":"إنه يلزم أن نضع موضع الشك جميع الأشياء بقدر الإمكان" ، وديكارت هو أبوالفلسفة الحديثة ، وهو رائد مذهب الشك ، ولا بد من الإطلاع على تراثه الثقافي خاصة ذاك المتعلق بالشك كمنهج لبناء الحقائق.

ديكارت

إن ما أرمي له من وراء ما كتبته ثلاثة أمور :-
1- أن الدين الإسلامي يدعوا إلى الشك الذي تكون نية صاحبه الوصول إلى الحق المقترن بعلو الإيمان ، وليس مجرد التشكيك الذي يبطن صاحبه نية مقترنة بالكفر المتستر.

2- أن فساد الزمان اليوم " من لم يشك فيه لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمي والضلال" كما قال الغزالي.

3- أن العلوم والأفكار التي نتلقاها يجب أن ننظر لها بطريقة مختلفة عما كنا ننظر لها يوم تلقيها ، فقد تلقيناها بتصديق لقصور فينا ، فكان الشك فيها هو الأمر الواجب إذا ما اردنا احترام عقلنا ، ومن أراد أن يصل للحقائق فإن عليه أن ينظر لكل الأمور بحيادية وإنصاف دون مراعاة من حوله ، وأن علينا إذا أردنا أن نبني بناءا متينا رصينا في أي علم سواء كان عقيدة أو فقها أو فلسفة أن ننظر لأسس العلم التي عندنا ونشك فيها ومن ثم نعيد بناءها حتى يكون البناء مبنيا على يقين جازم ، وليس وراثة عمياء.

مع تحياتي .. المحامي
ملاحظة:المقال منشور بجريدة الحركة بتاريخ 1-4-2008 مع بعض الإضافات

هناك 12 تعليقًا:

Engineer A يقول...

يعطيك العافية على هالموضوع الرائع .. وأتمنى إن القاريء يفهم الرسالة المقصودة عدل .. ويتفكر ويتمعن .. وما يؤمن بمبدأ "خالف تعرف" .. أو مثل ماصار معاي "لو شاكك إدي" !! :)

BookMark يقول...

دعوة جميلة لإعمال العقل
وأكبر رد على من يدعي أن الإسلام يدعو لتعطيل العقل والإيمان المطلق بغير تفكر ..
نعم الإيمان المطلق مطلوب .. بل ولازم وفريضة .. فالتسليم للحكم والأوامر الإلهية من دواعي هذا الدين ومن الاختبارات للطاعة والانقياد، والرضى ..
ولكن حين كان خطاب المولى عز وجل "أولم تؤمن"؟؟
كان رد الخليل "بلى،ولكن ليطمئن قلبي"
فغاية الشك هنا الاطمئنان .. والوصول لذلك الإيمان المطلق ..
وكذلك سيدنا موسى عليه السلام، حين قال: "رب أرني أنظر إليك"
هل كان طلبه هذا دليل على شكه بوجود الخالق؟ طبعا لا .. إنما كان ذلك للوصول إلى مرتبة عين اليقين كما تفضلت

بارك الله فيك واستخدمك لما ينفع هذه الأمة

المحامي يقول...

Engineer A

يا هلا بالمهندسة .. والله يعافيج ويسلمج ،، بس شنو سالفة "لو شاكك إدي"؟ :)

المحامي يقول...

BookMark
أشكرج على الإضافة التي تفضلتي بذكرها ،، وأكثر ما يعجبني بردودك أنها لا تخلوا من الفوائد
بارك الله فيج :)

بوسند يقول...

يقول أبو حامد الغزالي:

"إذ الشكوك هي الموصلة للحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال"

شكرا سعادة المحامي

إيلاف يقول...

هناك فرق كبير بين المؤمن بالوراثة , والمؤمن بالقلب والعقل : )

مقال جميل يحمل في طياته دعوة حق , غفل عنها الكثيرون

قرأت في كتاب { البوصلة القرآنية } فصلاً كاملاً يتحدث فيه الكاتب عن منهج الخطاب القرآني القائم على التساؤل
ومن أكثر الأفكار التي ظلت إلى اليوم حاضرةً في ذهني
{أن المعجزات السابقة كانت آنيّة ولحظيّة , مرتبطة بزمان ومكان الشعب المبعوث له الرسول
أما القرآن , فهو المعجزة المتفاعلة مع البشر إلى قيام الساعة
وما حقيقة هذا التفاعل , إلا من الأسئلة التي يطرحها الله في خطابه لنا عبر القرآن
والاجابات التي يتركها حيناً لعقولنا المفكّرة , وحيناً يوردها في كتابه }


وختام قولي , أنه لا حاجة لنا بعقولٍ خاملة , لا تستعمل بطرح السؤال والبحث عن الإجابة

شكراً لكم على جميع المواضيع المفيدة في هذه المدونة , فقد اطلعت عليها واستفدت

المحامي يقول...

بوسند

نشكر لكم ذكر مقولة حجة الإسلام .. وإن كان رائد مذهب الشك عند الغربيين هو ديكارت ، فأبوحامد الغزالي هو الرائد عند المسلمين
تحياتي لسيادتكم :)

المحامي يقول...

الاخت إيلاف .. نورتي المدونة بتواجدك فيها وبمرورك على صفحاتها
وكما تفضلتي بذكر قيام المنهج القرآني على إثارة الأسئلة ، والمتأمل في كتاب الله يلحظ ذلك كثيرا كقوله تعالى:"أفلا يتدبرون.."أفلا ينظرون.." "قل سيروا في الأرض ثم انظروا.." وغيرها من الآيات الكريمة
وليست العقول الخاملة اليوم إلا عبء على الأمة الإسلامية
نشكر لكم إضافاتكم النافعة
تحياتي

غير معرف يقول...

السلام عليكم

مقال جميل ولي معه مداخله



لعل بعض الناس ممن اعرفهم أفضل لهم أن يعيشوا إسلام الجغرافيا من أن ادعوهم لاستعمال عقولهم والشك في دينهم ، حتى ولو كان هدفي ان يعيدوا اختيار الدين كقناعة وليس لأنهم وجدوا آباءهم على امة وهم على آثارهم مقتدون.



السبب خشيتي ان الكثير منهم حين يستعمل عقله ويبدأ في الشك بما حوله، يقف عند الشك ولا يستمر حتى يصل الى يقين الايمان.


الكثيرين ليس لديهم مهارة السباحة او نفسها الطويل، فيسبحون الى منتصف الطريق ويموتون هناك في اعماق الشك والضياع.



ان الناس قسمان: قسم عالم يناسبه الشك، وقسم مقلد خير له ان يقلد عالما ويتشبث به من ان يبحث بنفسه.



لذا انظر الى الفكرة على انها مجدية لو وجهت الا النخبة او لو قام بها مسلم بوجود مرشد يرشده الطريق ويضئ له النور اذا احاطه الظلام. اما ان تكون دعوة للعوام فأخاف ان ارمي بهم الى التهلكة.



واطلب عوضا عنها بدعوة الى التفكر والتفكير في عظمة الاسلام، وهي ليست مبنية على الشك بل مبنية على اليقين. فانا على ثقة بأن الاسلام هو الاختيار الافضل، ولكن تفكري في خلق الله يزيد من يقيني وايماني وشكري لله ان خلقني في جغرافيا مسلمة، ووفر علي عناء الشك والبحث، حتى وان كان لي أجر واحد وللآخرين أجران.

تحياتي

"وصل هذا النقد من إحدى الرائدات في مجال الفكر الإسلامي ، وقد آثرت تنزيله هنا حتى يستفيد القراء ، ولم أذكر اسمها لأني لم استأذنها بذلك"

المحامي يقول...

أشكر الاستاذة الفاضلة على هذه المداخلة القيمة ، وأكثر ما نحتاجه في هذا الوقت هو النقد لا سيما وأن الفكر اليوم صار يقوم على المجاملات...

*أولا: أقدر لكم حرصكم وخوفكم على عقيدة الناس من الضياع والانحراف .. ولابد للذي يدعوا الناس للشاك أن يوضح لهم الجادة الصحيحة..

بتصوري أن الفكرة الأساسية للمداخلة هي ((أن الشك أمر يجب أن يبتعد عنه العوام خوفا من عدم الوصول إلى الحق ، وأن عليهم التشبث بالعلماء بدلا عن الشك ، واعتماد التفكر منهجا بديلا عن الشك)) ، ولتمحيص ذلك لا بد من توضيح بعض الحقائق:-

1-أن الإسلام دين الفطرة ، وبالتالي ليس هناك حاجة لأن يكون الشخص عالما ، بل يكفي أن يكون عاقلا ، إذا فالتقسيم الصحيح للناس في ذلك هو أنهم عقلاء ومجانين وليس علماء وعوام ، فالصنفين مكلفين بالبحث عن الحقائق وكليهما سيحاسب أمام الله ، ولو كان الوصول للحق عسيرا بحيث يحتاج نفس طويل ومهارات لما جعله الله -عز وجل- للناس كافة عالمهم وعاميهم ، والمهم في قضية الشك نية الوصول للحق المقترن بعلو الإيمان ، ومن كانت هذه نيته فقد انطبق عليه قول الحق:"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" ، فقد تكفل الله بالهداية لمن أراد الحق بإخلاص ، فلن يتركه الله -عز وجل- في منتصف الطريق عالما أو عاميا ، أما إن كانت نيته سيئة تجاه الدين فهدايته بيد الله وحده ومن يهدي من أضل الله؟!

2-هل الذي عليه المسلمون اليوم هو الإسلام؟ هل المسلمون بالجغرافيا هم المسلمون حقا؟ هل الإسلام الجغرافي حجة أمام الله؟ الناس اليوم يقولون لا إله إلا الله ولا يفهمونها كما فهمها الأعراب ، فلا يفهمون ما يترتب عليها من خلع لكل الطواغيت الذين يجب الكفر بهم ، إذ لا يكفي قول الشهادة باللسان بل لابد من تحقيق معناها الصحيح ، معنى الإسلام الحقيقي غاب عن الناس وصار الشرع اليوم ممسوخ مشوه ، وإذا ما علم الشخص ذلك وجب عليه الشك حتى لو كان عاميا ، وقضايا العقيدة الأساسية ليس بها عوام وعلماء.

3-أن منهج التفكر يختلف عن الشك ، فالشك يتطرق للسابق والتفكر يتطرق للاحق ، والذي يسلم لسابقه الخطأ فسيبني لاحقه على بنيان ركيك لا يوصله للحق ، ولذلك لا يكفي التفكر وحده.

4-أن من أكثر أسباب ضلال بني اسرائيل هو التشبث الأعمى بالعلماء ، وقد ورد بالأثر ظهور فقهاء كذبة في آخر الزمان ، ولذلك كثيرا ما كنت أحذر من اتباع كل من هب ودب من المنتسبين للعلم.

تحياتي الخالصة

أبو مسلم الراهب يقول...

أخي الحبيب أجدك مجانب للصواب في فهمك لهذا الحديث وبناءك على هذا الفهم مقالك يجعله غير قويم، أنصحك بمطالعة هذا المقال

http://www.fakkir.com/?p=207

الراقي للتنظيف يقول...


شركة المثالية للتنظيف
شركة المثالية للتنظيف بالدمام
شركة المثالية للتنظيف بالخبر
شركة المثالية للتنظيف بالجبيل