الخميس، 19 نوفمبر 2009

نظرة في علم التصوف



*المقدمة: ما زالت البشرية تعاني من خلل في الوسطية ، ولعل التصوف من أكثر ما لا يتوسط به الناس ، لأن السلفي أو الصوفي اليوم إن توسطا طردا من أبناء فكرهم ، ولذلك يتم اللجوء للتعصب للتخلص من هذه الشبهة ، أما أنا فإن كل ما يعنيني هو قول الحق ، ولذلك آثرت توضيح نظرتي في علم التصوف لأعطي القراء الكرام إشارات تحل الإشكاليات الأساسية حول علم التصوف لمعرفة حقيقته وهل هو حق أم باطل؟! ، وقد وجدت نفسي مجبرا على أن أوضح عند حديثي عن ذلك أن عقيدتي سلفية أثرية على منهج عقيدة العجائز ، حتى لا يصاب بعض القراء بالقشعريرة ، وليس ذلك وحسب بل إنني نجدي المنبع ، وعندي من جفوة الطباع ما يحول بيني وبين إمكانية التصوف -كعادة أهل نجد- ، فلست يمانيا يستهويني الطرب فأتصوف بالهوى ، ولست حجازيا أتصوف مع نسيم الحجاز ، وكل ذلك يطمئن السلفي ، وليطمأن الصوفي -أيضا- فقد تركنا نجدا إلى الكويت ، منبع الأفكار المتضادة ومؤتمر الصراعات الفكرية ، إذا فتركيبتي الثقافية يطمأن لها كل من هب ودب.. ومن هنا ننطلق للموضوع..

*الموضوع:-
تأملوا معي الصورة الآتية: "اثنان يتحاوران بالتصوف فيقول أحدهم إن التصوف حق لأنه يعني الزهد ، ويقول له الآخر بل التصوف باطل لأنه ابتداع ، "والجهل هنا هو سيد الموقف" .. فالأول يرى التصوف بمنظور القرن الثالث هجري عند نشأته ، والثاني وفق المعنى العرفي اليوم بعد مرور دهور أدخل فيها أفراد بدعا محدثة في علم التصوف ومن ثم نسبها الناس إلى التصوف ، وفي حقيقة الأمر فإن الإثنان متفقان على أن الزهد فضيلة وأن الابتداع رذيلة ، فلو تم استبدال لفظ التصوف بلفظ الزهد والرقائق لسكنت النفوس وهدأت الأرواح .. وهكذا نجد أن هناك حرب كبيرة بسبب خلاف لفظي ، ودور إبليس هنا عظيم في إشعال الفتنة بين أقوام تتبع هواها تحت مسميات الدفاع عن العقيدة...
إن معنى التصوف وحقيقته قضية لا بد من حسمها ، فالتصوف لفظ نشأ وله معنى معين ثم طرأت عليه بعد ذلك انحرافات شيئا فشيئا كغيره من العلوم ، وتأملوا معي ما يأتي:-
1-علم العقيدة نشأ أساسا لمعاني سامية من تعظيم للخالق ومعرفة له تدفع المسلم إلى زيادة إيمانه ، ثم بعد ذلك ظهرت الفرق الضالة وانتشر علم الكلام ، وظهرت نظريات وخرافات كثيرة كالقول بخلق القرآن.
2-علم الحديث وجد أساسا لمعرفة سنة النبي –صلى الله عليه وسلم ، ثم وجد الوضع والكذب على أحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم- حتى أن هناك ضيفا أكل سمكا عند صاحب المنزل ثم قال له: روي عن النبي –صلى الله عليه وسلم- :"إذا أسمكتم فأبلحوا" –أي من أكل البلح- ، فقد وضع هذا الضيف الثقيل حديثا مكذوبا لأنه اشتهى بلحا ، فما كان من صاحب المنزل إلا أن رد عليه قائلا: ولكن "إذا طعمتم فانتشروا" :)
3-علم الفقه نشأ لمعرفة الأحكام الشرعية لإقامتها بوجه صحيح ، ثم وصل إلى مرحلة تعظيم الأئمة على حساب النصوص ، ووجد التعصب المقيت للمذاهب حتى أن الذهبي قال:"قال الحافظ أبوحاتم بن خاموش-في حكاية- : "كل من لم يكن حنبليا فليس بمسلم" ، وقال أحد المتعصبين ضد أبوحنيفة:"خالف أبا حنيفة فإنك تصيب، وإذا سئلت عن شيء فلم يكن عندك شيء فانظر ما قاله أبوحنيفة فخالفه فإنك تصيب" ..! وهذا فقه حذق ما بعده فقه..!
4-وهذا الأمر تماما بالنسبة للتصوف نشأ كعلم يدعو إلى الزهد في الدنيا والتوبة ومذاكرة الرقائق ، ثم وصل إلى وجود خرافات الرقص والحضرة والطواف حول القبور والذبح لغير الله.
فهل يسوغ قطع جذع الشجرة الصحيح لفساد أوراقه؟! هل يصح ترك علم العقيدة والحديث والفقه بسبب دخول الانحرافات فيه؟ بالطبع لا ، وكذا الأمر في التصوف ، والمتعين في كل هذه العلوم التمييز بين الصحيح والفاسد إذا ما قرر الشخص احترام عقله ، وإلا فهو في خيار بأن يرد كل هذه العلوم على سياسة "إنا وجدنا آباءنا على أمة" ، وإذا ما قررنا أن التصوف علم كغيره من العلوم فيه الصحيح والسقيم فإنه يتعين علينا هنا -إن كنا على قدر كبير من العقل- أن نغامر في دراسة التصوف لمعرفة الصحيح من السقيم ، ولا مانع عند إذ من استبدال لفظ الرقائق بدل التصوف..
*لكن ما هي مراحل علم التصوف؟
*الجواب:حسب رأيي أن علم التصوف مر بأربعة مراحل أساسية:-
1
-مرحلة المدرسة الأولى من الصحابة الزهاد "أهل الصفة" وتبعهم متزهدين التابعيين وعلى رأسهم الحسن البصري وداود الطائي وإبراهيم بن أدهم وأبي الفضيل بن عياض ، وهي مرحلة التصوف بالسليقة بحكم عهد النبوة ثم وجود أمة تربت علي يدي مربي الخلق سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم- ، وهذه المرحلة لا نحتاج لذكر فضلها فهو أشهر من أن يذكر.

موقع أهل الصفة خلف الحجرة النبوية


2-مرحلة نشوء التصوف كعلم في القرن الثالث هجري ، وعلى رأس هذه المرحلة الجنيد والحارث المحاسبي ، وقد نشأ علم التصوف بهدف محاربة ماديات الحياة ، ولكن ما هو رأي كبار العلماء بالحارث والجنيد بوصفهم سادة التصوف في هذه المرحلة؟ وما هو مضمون علم التصوف عندهم؟
أ- أما الجنيد فقد أثنى عليه الذهبي ، ويتضح معنى التصوف عنده بمقولته المشهورة:" :" من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث، فلا يقتدي به في هذا الأمر -أي التصوف- لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ، والطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول"

ب-وأما الحارث فقد أثنى عليه الشاطبي وابن حجر بل وحتى ابن تيمية أثنى عليه في الرسالة التدمرية والفتوى الحموية ، لاحظ أن ابن تيمية قد أثنى على صوفي..! ، ويتضح معنى التصوف عند الحارث بمقولته: "من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص ، زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة"
إذا فالجنيد والحارث المحاسبي من أشهر المتصوفة وقد أثنى عليهم أئمة ثقات من السلف ، وقد كان معنى التصوف عندهم هو الحرص على اقتفاء الكتاب والسنة وترك البدع والأهواء ، وقد جمع الشيخ عبدالفتاح أبوغدة أكثر من أربعين متصوف يرون التصوف بهذا المعنى الصحيح ألا وهو متابعة نصوص الكتاب واقتفاء السنة.

3-المرحلة المختلطة: وهذه المرحلة كثر فيها الفلاسفة والمتكلمون ، وازداد فيها فساد الزمان ، وفي هذه المرحلة أسست قواعد مدرسة التصوف الفاسدة ، ومنها بدء التصوف يتحول إلى فلسفة ليس إلا ، ومن هنا بدء التشنيع يزداد للتصوف ، ولكن هذه المدرسة لم تكن كلها فاسدة ، بل كان التصوف فيها على طرفان ، طرف ما زال متمسكا بالتصوف الصحيح إلى حد كبير ويمثله الغزالي وابن رشد ، وطرف يميل إلى الباطل وقد وصلت بعض أقوال أصحابه إلى الكفر ويتزعم هذا الحزب ابن عربي الطائي ، وهذا ذمه علماء السلف ذم كبير لا حاجة لذكره ، وقد ذكر ابن حجر عنه أنه كان يمجد الحلاج صاحب نظرية الحلول لأنه منحرف ويشنع على الجنيد لأنه على حق ، ولما وصلت أقوال البتدعة الزاعمين بالتصوف إلى حد الكفر ، ظهرت ردة فعل غير متوازنة من الطرف الآخر أبطلت كل التصوف ولم تره إلا الضلال الذي ما بعده ضلال ، وحملوا التصوف الصحيح أوزار وتبعات التصواف الفاسد ، والله عز وجل يقول:"ولا تزر وازرة وزر أخرى"
*ملاحظة: إن قيل (ابن عربي) فيقصد به الصوفي المنحرف ، وإن قيل (ابن العربي) –بالتعريف- فيقصد به أبوبكر الفقيه القاضي المالكي.

4-المرحلة الرابعة للتصوف ((مرحلة الدروشة)) وهذه المرحلة هي الموجودة اليوم في زمننا هذا ، وبها ضاع علم التصوف ، فمدعين التصوف باتوا مبتدعة لا يقتفون الأثر وأما الذين تمسكوا بالتصوف الصحيح "فقليل ما هم" ، وبهذه المرحلة تحول علم التصوف إلى مفهوم الرقص والحضرات والطعن بالسكاكين والذبح لغير الله والطواف على المقامات والقبور والاستغاثة بغير الله ، مع خرافات الغوث والقطب والكشف وادعاء معرفة الغيب للأولياء واعتبار الخضر مصدرا تشريعيا تستقى منه الأحكام المتجددة ، والضلال عند هؤلاء الصوفية يتراوح بين الابتداع مع وصول صاحبه إلى الكفر أحيانا ، وقد كان هؤلاء الدراويش أفضل لقمة للاستعمار ، فهم يفسرون الدين على أنه الرقص وأما العقيدة الصحيحة والجهاد في سبيل الله واتباع الأثر فهم أبعد الناس عن ذلك -هداهم الله- .
وهكذا صار المبتدعة والزنادقة هم حملة اسم التصوف في وقت طبق الصالحين غيرهم التصوف الحقيقي تحت مسميات الزهد والرقائق ، وصار العقلاء –وهم قلة- يعلمون أن التصوف محمود ومذموم ، وأما الجهلاء فقد ظنوا أن المتصوفة اليوم هم نفس متصوفة القرن الثالث


الملخص: أن علم التصوف به الصحيح والسقيم تماما كغيره من العلوم ، ومن كان على قدر من العلم فلا بد له من تمحيص هذا العلم ومعرفة حقيقته ، وأن يفصل التصوف كعلم عن أفعال المتصوفة اليوم ، وعلى الشخص اليوم إن أراد أن يتحدث عن التصوف أن يستبدل هذا اللفظ بلفظ "الزهد والرقائق" كمرحلة مبدئية إلى أن يتصحح مفهوم التصوف عند الناس ويصلوا إلى مرحلة يدركوا فيها أن التصوف أساسا ما هو إلا الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وعلى الشخص الذي يسمع لفظ التصوف أن يسأل القائل: "ماذا تقصد بالتصوف؟" فإن كان تصوف الحسن البصري والحارث المحاسبي سالمناه ، وإن كان تصوف ابن عربي والحلاج نابذناه..

*ونحن فعلا اليوم بحاجة إلى عالم رباني يجدد علم التصوف وفق أصوله الصحيحة حتى تتضح صورة علم عظيم طمس في عمى الجهالات..

وأختم حديثي بالعبارة التي رواها كبار علماء المذهب المالكي عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه قال : (( من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ،ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ، ومن جمع بينهما فقد تحقق". انتهى


(كتب مقترحة)
*وفي الختام أنصح القراء الكرام ببعض الكتب المتعلقة بالتصوف (وقل إن شئت "الرقائق والآداب") :-



1-كتاب (مختصر منهاج القاصدين) للإمام احمد بن قدامة المقدسي ، وهذا الكتاب هو اختصار لمنهاج القاصدين ، ومنهاج القاصدين كتاب ألفه ابن الجوزي واختصر فيه كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ، إذا هذا الكتاب المقترح يعتبر اختصار لمختصر ، ومحتوى الكتاب يضم أربع مواضيع رئيسية هي(العبادات والعادات والمهلكات والمنجيات) ، ويتميز بسهولته ووضوحه وصغر حجمه "500 صفحة" ، ويعتبر مرجع مصغر لكل ما يخص حياتك ، فإن سافرت فارجع لفصل السفر ، وإن اختلفت مع صديق فارجع لكتاب الصحبة ..وهكذا. ، وأنصحكم بتحقيق زهير الشاويش.

2-تهذيب مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين ، كتبه ابن قيم الجوزية ، يوجد تهذيب جيد لعبدالمنعم العزي.

3-رسالة المسترشدين للحارث المحاسبي ، وأنصحكم بتحقيق عبدالفتاح أبوغدة ففيه من الفوائد ما لا يحصى ، والشيخ عبدالفتاح من أفضل المحققين ، وعليكم بطبعة مكتب المطبوعات الإسلامية.

4-لمن أراد أن يتوسع عليه بإحياء علوم الدين.

تحياتي .. المحامي

الاثنين، 9 نوفمبر 2009

سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد

سيد قطب (شهيد الكلمة)



عنوان المقال هو عنوان لكتاب قيم من تأليف الدكتور صلاح الخالدي –جزاه الله خيرا- ، ذلك الدكتور الذي عنى بوضع ترجمة وافية لسيد قطب صاحب أكثر شخصية دار عليها الجدل والخلاف في القرن الماضي ، ولذلك ألفت كتب كثيرة تتناول دراسة هذا السيد، وكان هذا الكتاب أضبطها في إعطاء الصورة الحية لشخصية سيد قطب حتى إنه ليخيل إليك رؤية سيد كما لو كان أمامك بهيبة عقله وفكره وبأسلوب أدبي راقي ، ولذلك أثنى محمد قطب على دراسات الدكتور لشخصية سيد بقوله عنها:"من أنضج الدراسات وأوفاها وأشملها، وصاحبها كاتب تراجم متميز..إلخ" ، وأنا هنا لا أريد أن أذكر ترجمة لسيد، إنما أريد أن أذكر خواطرا طرأت علي عن هذا الرجل بعد قراءتي لكتاب الدكتور ، وكل ذلك بهدف شحذ همة القراء للإطلاع على ترجمة هذا القطب الشامخ وللاقتداء به ، وحاشانا أن نوفيه حقه وقد بذل رقبته في سبيل الله، ولا نزكي على الله أحدا..!

إن الخاطرة الجميلة تجاه الأشخاص الطيبين ليست ذات صعوبة، فكل ما عليك هو تلمس جوانب العظمة في شخصياتهم وتناولها، لكن الأمر يختلف تماما مع سيد، فجوانب حياته هي العظمة ذاتها، إيمان أم شجاعة أم عزة أم كرامة أم أنفة أم طهر أم عفاف أم جهاد أم أم أم ، معان جميلة متناثرة هي ذلك الرجل..

إن سيد الطفل لم يكن طفلا كغيره، إن العظماء قد ولدوا عظماء وماتوا عظماء ، سيد الطفل كان بالعاشرة من عمره محافظا على الصلوات تماما كالرجال ويجلس معهم إلى الساعة العاشرة بالمسجد بينما الأطفال يلهون ويلعبون ، كان نابغا من طفولته لما سأل الشيخ عن سبب حذف حرف العلة في قوله تعالى:"ذلك ما كنا نبغ" بلا مبرر ظاهر، كان شجاعا لما دافع عن الفتيات في المرحلة الابتدائية ضد الفتيان الذين يعاكسونهم في المدرسة، هذا هو الطفل الرجل..

إن سيد شخصية تحيط بها مفارقات لا تجتمع ، كان ضعيف البنية قوي القلب ولذلك تعجب الشيخ علي الطنطاوي من شكله لما التقاه ، إذ لم يتصور أن المقالات العنيفة تصدر من شخص ضعيف البنية تبدوا عليه مظاهر المسالمة والموادعة ، ومن المفارقات أن سيد كان حاد اللسان مرهف الإحساس، وأنا أشببه في ذلك بابن حزم الظاهري، ونحن إذ نذكر إحساس سيد المرهف لا بد لنا من التطرق للمرأة في حياة سيد؟ إن الحس المرهف لسيد جعله يعاني، إن سيد من الذين أحبوا مرارا ولم يصلوا، إن حب سيد هو الحب الراقي ، حب العفاف والطهر ، فقد أحب في البداية فتاة وسافر للدراسة ورجع فإذا هي متزوجة ، فغرغرت عيناه ثم اضطر للانسحاب ، ثم أحب فتاة غيرها وتبين له أنها تحب غيره وظل خاطبا لها سنوات عديدة ظل يتعذب بها حتى صارت نتاجا أدبيا رفيعا من أشهره قصيدة الكأس المسموم ورواية الأشواك ، ثم اضطر بعد ذلك لفسخ الخطبة ، وظل يعاني سنينا وقد صرفه ذلك عن الحب سنوات عديدة ، ثم توجه بعد ذلك من العمل الأدبي البحت إلى الأدبيات الإسلامية ثم انضم لجماعة الإخوان ، واستغرق العمل الحركي كل وقته ، وقبل أن يُعتقل أحب فتاة ملتزمة وأقدم على خطبتها ، لكنه قبل ذلك اعتقل وألقي في السجن مظلوما ليقضي به سنوات من عمره ، ثم خرج بعفو صحي ، وكان عمره قارب التاسعة والخمسين وقد فكر بالزواج ووجد بغيته ، وأوشك على خطبتها لكن حبل المشنقة سبقه إلى ذلك..!

إن سيد مر بمراحل عديدة في حياته ، طفولة ثم أدب بحت في مدرسة العقاد ثم ضياع فكري ، ثم توجه للأدب الإسلامي إلى أن صار رائد الفكر الحركي الإسلامي ، وهذه المرحلة هي التي يعرف الناس اليوم بها سيد ، وهذه المراحل العديدة في حياة سيد تدل على شجاعته في إتباع الحق ، وهو خير مثال للذين يموتون وهم على عمى قومهم مقتدون..!


عندما انشق المنافق جمال عبدالناصر عن الإخوان وأسس هيئة التحرير ، حاول أن يحتوي سيد قطب قبل انضمامه للإخوان فأقامت له الهيئة احتفالا كبيرا ، وعندما قام سيد متحدثا قال أنه متهيء للسجن ولما هو أكثر من السجن ، فقام جمال وعاهده على الدفاع عنه ، وهو ذاته المنافق الذي أمر بإعدامه فيما بعد ، إن جمال كان يعلم المكسب العظيم من انضمام سيد للهيئة فعرَض على سيد استلام وزارة المعارف فرفض سيد هذا العرض ، وفي ذلك درس للدعاة الذين يتساقطون ويخضعون للحكام في أقل عرض دنيوي ، وكم رأينا قيادات للجماعات الإسلامية عرضت عليهم مناصب وزارية فخضعوا للطاغوت من أجلها ، خسروا دينهم من أجل حطام الدنيا الزائل..! أما سيد فقد أعلن انشقاقه عن هيئة التحرير.. باع الدنيا من أجل الآخرة .. فرحمه الله رحمة واسعة..




المعركة بين سيد والعبد الخاسر

إنني عندما أقرأ كتاب الله وتستوقفني الصورة الجمالية في آية فإنني ألجا مسرعا إلى مكتبتي العزيزة وأفتح تفسير "في ظلال القرآن" لسيد قطب، تفسيرا أجد فيه حس من ذاق حلاوة الإيمان وتغلغلت عظمة الله في قلبه حتى استخف بالجاهليات العالمية ونابذ الحكام







إن العجيب أن سيد توجه للفكر الإسلامي من خلال التدبر المباشر لآيات القرآن ، كان سيد قبل أن يتوجه للفكر الإسلامي أديبا أريبا ، ثم اعتنى بتدبر القرآن من الناحية الأدبية من خلال رصيده الأدبي السابق ، ثم توجه إلى الفكر الإسلامي ليس من خلال عاطفة حماسية أو نصيحة شخصية ، بل من خلال روح عصامية وصلت للحقائق العليا بتدبر الخطاب الإلهي الموجه إليها ، كان يحس أن آيات القرآن قد وجهت إليه فعلا ولذلك تأثر فيها ونقلته من مرحلة الضياع الفكري إلى مرحلة الريادة في الفكر الإسلامي الحركي بعد انضمامه لجماعة الإخوان المسلمين .. فهو قائد تنظيم بالرغم من دخوله المتأخر للإخوان ، (وهذا درس لبعض الجماعات الإسلامية التي تضع الأقدمية أساس القيادة).. لا بد أن يعلموا أن الدعوة لمن صدق لا من سبق ، والخيار في الجاهلية خيار في الإسلام..!

وهكذا انضم سيد إلى صفوف الإخوان ، لكنه انضمام عن قناعة ، لم ينضم للإخوان في مرحلة الرخاء ، بل انضم لهم في وقت المحنة ، ولذلك بعد انضمامه بفترة وجيزة ألقي بالسجن مرات عديدة ، وظل قابعا بالسجن سنوات عديدة من عمره ، ذاق فيها صنوفا من التعذيب إضافة إلى أمراضه في الكلى والمعدة والرئة ، وقد أصيب من جراء التعذيب بنزيف رئوي شديد وذبحة صدرية..! لم ينحني ولم ينثني..!




سيد في السجن

اسمعوا يا دعاة إما أن تكونوا كذلك في صبركم وإلا فتواروا ، رحمك الله يا سيد فقد علمتنا معاني العزة والثبات على الحق وعدم مهادنة الباطل مهما زادت خسته..!

إذا كانت النفوس كبارا ** تعبت في مرادها الأجسام

وقد جعل سيد السجن نتاجا إسلاميا لمؤلفاته ، لم يكن سجينا ذليلا كغيره ، فعندما كان يُقدم أهله له الدجاج في السجن كان لا يذوقه ويقدمه لإخوانه المساجين ، اسمعوا يا مسلمون هذه هي المكارم..!


وقد كان ثبات سيد ومعاندته للباطل ممتدة إلى أن فارقت روحه الطاهرة هذه الدنيا ، فقد حُوكم من قبل المنافق فؤاد الدجوي بمحاكمة عسكرية جائرة إلى أن حكم عليه بالإعدام



القاضي المنافق فؤاد الدجوي

وقد قال لما سمع حكم الإعدام "الحمد لله" ، وعندما أرادوا أن يثنوه وأن يقر حكم الطاغوت جمال عبدالناصر قال كلمة خالدة سجلها التاريخ :"إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ، ليأبى أن يكتب حرفا واحدا يقر به حكم طاغوت" .. اسمعوا يا من واليتم الطواغيت وجعلتموهم ذاتا مصونة لا تمس..! هكذا تكون العقيدة ، لا مساومة فيها ولا مهادنة..!



الشهيد الحي سيد قطب قبيل الذهاب لإعدامه

وهكذا علق حبل المشنقة على رقبة سيد ، وفارقت روحه الطاهرة هذه الأرض ، ليلقى ربه -إن شاء الله- ، وظلت كلماته داوية وصار الجيل بعد الجيل يرويها ، وهذا ما قاله سيد:"إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة ، حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء ، انتفضت حية ، وعاشت بين الأحياء" وهكذا طويت صفحته .. فرحمه الله رحمة واسعة. انتهى


*وإن كان من نصيحة لمعرفة فكر سيد قطب ، فأنصحكم بكتابه "معالم في الطريق"







مع كامل تحياتي .. المحامي

السبت، 7 نوفمبر 2009

افتتاحية المدونة



يقول الفقير إلى عفو ربه"محدثكم":
بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، ثم الصلاة والسلام على النبي الأعظم محمد -
صلى الله عليه وسلم - ، ثم أما بعد .. كنت قد فكرت منذ فترة بفكرة إنشاء مدونة ، وقد كنت مترددا في ذلك إلى أن شرح الله صدري لهذه الفكرة بعد أن أقنعني أعز إخواني بالإيجابيات الكثيرة للمدونة ، وبعد أن
ضقت ذرعا من الصحف لأسباب عديدة:-

1-لأنني من الذين لا يحسبون للناس أي اعتبار عند طرح الرأي ، حيث أنني حريص على إرضاء ضميري ، ورضاء الناس أو سخطهم قضية لا تعنيني بتاتا طالما كنت متمسكا برأي أحسبه صحيحا ، وكل ما فوق التراب تراب، والصحف لا تريد ذلك.

2-لأن الكثير من الصحف تريد تقديم مراسيم للولاء والطاعة ، وتحولت فيها المساحة
للجميع إلى مساحة للربع والجماعة بل وحتى المرتزقة.

3-لأن هناك انتقائية من حيث موضوع المقال ، فالكثير من الصحف صارت تستعبد الناس في آرائهم ، فإن نافق الشخص صار كاتبا يستحق نشر رأيه ، وإن قال ما يرضي
الله فإن الامتناع عن نشر مقاله هو الجزاء.

ومن هنا جاءت فكرة إنشاء المدونة التي يقول فيها الشخص ما يرضي ربه ثم ضميره بكل حرية...

وأظن القراء الكرام يتساءلون عن
محتوى المدونة؟ هل هي أدبية أم فكرية أم سياسية أم
أخلاقية أم أم أم؟ فأقول لهم إن من الظلم للفرد أن يُحصر على جانب واحد ، وإن كانت المدونة تعبر عن شيء فإنما تعبر عن صاحبها ، وصاحبها يتكون من عقل وروح ، فإن فصلنا عنه روحه صار حاسبا آليا ، وإن فصلنا عنه عقله صار مجنونا ، وإن نظرنا له بعقله وروحه أمكن لنا أن نعرف ما يريده بالضبط ، وقد عرف الناس النبي –صلى الله عليه وسلم- بعقله وروحه فأمكن لهم معرفة ما يريده بالضبط ، والعظماء لا يُنظر لهم من حيث ما تميزوا به وحسب ، بل ينظر لهم من حيث إيمانهم و فكرهم وأخلاقهم بل وحتى بيتهم ، لأن جوانب العظمة عندهم لا بد أن تمتد لتشمل مناحي الحياة ، ومن تأمل كتابا للتراجم عرف ما أقوله ، ومن هنا جعلت هذه المدونة مدونة عامة أطرح فيها كل ما يتعلق بالعقيدة والفقه والأخلاق والفكر والسياسة والأدب والتاريخ وغيره ، ولا تحسبوني متطفلا
على ما لا أعرفه ، فإنني لا أقول إلا ما أعلم ..

وأما عن عنوان المدونة التي أسميتها "الأصالة والمعاصرة" .. فأقول: إنها قاعدة يجب أن يجعلها أي مسلم نصب عينيه تجاه أي أمر ، إن ديننا الإسلامي صالح لكل زمان ومكان، ولكننا نحتاج أن نجعل شموليته هذه تتناسب مع متطلبات العصر دون أن نخل بنظامه وقواعده ، ولم تتشوه صورة الإسلام إلا من أقوام فهموا أن الإسلام أصالة فقط أو معاصرة
فقط..! ولسنا هنا إلا محاولين الالتزام بهذا المنهج المعتدل ... ولذلك رفعته عنوانا للمدونة..

وقد أسميت نفسي
"المحامي" ، لأن الحقائق قضية ناجحة فشل محاموها في الدفاع عنها ،
ولذلك حرصت على أن أكون محاميا حذقا في الدفاع عن قضايا ديني وأخلاقي وفكري
ورأيي .. ولست إلا محاميا يحق الحق ويبطل الباطل..

وقد قلت بيتا من الشعر بمناسبة هذا الافتتاح:-


إن رمتَ رأيا حصيفا وبالآثار تطلُبُهُ .. فالزم مدونتي تفُز في أعظم الحِكم

وفي الختام .. زواري الكرام حللتم أهلا ونزلتم سهلا .. وأسال الله لي ولكم التوفيق والسداد والنفع ..

تحياتي ..
المحامي